روائع مختارة | قطوف إيمانية | التربية الإيمانية | نحو حوكمة للهوية والتنوع.. (الإنموذج الإسلامي)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > التربية الإيمانية > نحو حوكمة للهوية والتنوع.. (الإنموذج الإسلامي)


  نحو حوكمة للهوية والتنوع.. (الإنموذج الإسلامي)
     عدد مرات المشاهدة: 3111        عدد مرات الإرسال: 0

— من خلال التنوع تُدرك حدود الهويات الكبرى ومكوناتُها الصُّغرى، وتُدرك الهويات المتغايرةُ.

ا —لتفكير في أسسٍ لحَوْكَمَةِ الهُوية وحَوْكَمَةِ التنوع يَكْتَسِي أهميةً كبيرةً في عالمٍ مُتَغيرٍ مثلَ الذي نعيش فيه الآن.

 — لقد صارتِ المجموعاتُ الهويةُ تؤكد ذاتَهَا مَحَلِّيًّا مستعينة بمفاهيمَ شُـ مُوليةٍ.

 — إن القَوْلَ بإمكانِ التنوعِ، يُؤَسِّسُ بالتَّلاَزُمِ أفْكَارًا حَيَّةً في إطارِ التَّشَارُكِ مثل حِمَايَةِ التنوعِ، وحمايةِ حقوقِ الأقلياتِ الثقافيةِ والإثنيةِ.

 — فالتنوع المؤسس على كثرة النوع هو عامل تأسيس للمجتمع المتعارف، إذ أن التعدد المعرفي والفكري والعلمي والإثني، يقود بالضرورة إلى التفكير في حدود للتوافق لتحقيق التعارف ومآلاته المـ جْمَلَةِ في "التعايش" وقبول "التشارك".

 — إِنَّ احترامَ الحَقِّ في الاختلافِ الفِكْرِيِّ والثَّقَافِيِّ حَقٌّ لا يُمكِنُ أن يَتِمَّ خارجَ رَحِمِ العُقُولِ المـ قِرَّةِ بِضَرُورَةِ التَّنَوُّعِ.
— علينا أن نَعِيَ أنَّ هويتَنَا مؤسسة على الدين الإسلامي، وأنَّ الإسلامَ يُعْتَبَرُ ركيزَةَ شخصيتنا لاَزَمَتْ أُمَّتَنَا منذ خَلَقَ اللهُ الإنسان على وجه المعمورة.

— علينا ونحنُ نَضَعُ أُسُسًا لحوكمةٍ رَشِيدَةٍ و تَشَارُكِيَةٍ أَنْ نَعْلَمَ إن للتَّخَصُّصِ مَكَانَتُهُ الحَاسِمَةُ فِي نَجَاحِ أَنْظِمَةِ التَّقْيِيمِ ونَجَاعَةِ مُخَطَّطَاتِ التَّطْوِير.

 نحو حوكمة للهوية والتنوع

الأنموذج الإسلامي
 
ورقة مقدمة إلى ورشة العمل

التي أقامتها كلية الدراسات الإسلامية

بمؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع

بعنوان


(الحوكمة والهوية والتنوع - رؤى نظرية وخبرات دولية وإسلامية)

في الفترة:  14/ 15 ديسمبر 2010م

بفندق الریتز كارلتون ۔ الدوحۃ قطر

إعداد وإلقاء

سعادة الدكتور/ غيث بن مبارك الكواري

وزير الأوقاف والشؤون الإسلاميةـ قطر

بسم الله الرحمن الرحيم

اسْمَحُوْا لِيْ أَنْ أَتَقَدَّمَ بِالشُّكْرِ إِلى صَاحِبَةِ السُّمُوِّ الشيخة موزا بنت ناصر، على تكرمها برعاية هذه الورشة، وَإِلَىٰ كُلِّيَّةِ الدِّرَاسَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمُؤَسَّسَةِ قَطر لِلتَّرْبيةِ وَالعُلُومِ وَتَنمِيةِ المجتمعِ وَجَامعةِ كارلتون على تَقدِيمِ الدَّعوةِ لِيْ لِتَقدِيمِ الكلمةِ في هذهِ الوَرْشَةِ الْمُعَنْوَنَةِ « الحوكمة والهوية والتنوع – رؤى نظرية وخبرات دولية وإسلامية ».
 
وإنِّي أُهَنِّئُ الْمُشرِفِينَ على هذهِ الوَرشَةِ على اختيارِهِم لهذَا الموضُوعِ، إذْ أَنَّ الحديثَ عَن الهويَّةِ الآن لَمْ يَعُدْ يَقتَصِرُ على النَّظَرِ في جَانِبِهَا المرتبطِ بِدَوَائِرِ الائتِلافِ وَالاشْتِرَاكِ بين جماعة هُّوِّيَةٍ مُعينة في فضاء جغرافي مُحدد؛ فَمَهْمَا بلغت درجةُ ذلك الائتلاف، ومهما تعددت حدودُ المشترَكِ (مِنْ لغةٍ ودينٍ وتاريخٍ. . . )
 
فإنه في جَميعِ الهوياتِ دَوَائِر هُوِّيَةٌ صُغْرى (هوياتُ الأقلياتِ دينيةً كانت أم إثنيةً، الهوياتُ المستضافةُ كما هو الحال في دول الخليج. . . إلخ).
 
كما أن الوعي بالهوية يتلازم مع الوعي بضرورةِ التَّنَوُّعِ، إذ من خلال التنوع تُدرك حدود الهويات الكبرى ومكوناتُها الصُّغرى، وتُدرك الهويات المتغايرةُ سواءٌ تلك التَّامةُ التغيير أو تلك التي على الرغم من تغيرها تبقى إمكاناتُ التَّواصُل مَعَها وإمْكَانَاتُ الدخول معها في أحلافٍ واردةً في كل وقتٍ وحينٍ.
 
ولما كان الأمر كذلك، فإن التفكير في أسسٍ لحَوْكَمَةِ الهُوية وحَوْكَمَةِ التنوع يَكْتَسِي أهميةً كبيرةً في عالمٍ مُتَغيرٍ مثلَ الذي نعيش فيه الآن.
في هذا الأفق اخترت أن يكون موضوع كلمتي: 
«نحو حوكمة للهوية والتنوع الأنموذج الإسلامي»
 
وإني أشكر القائمين على تنظيم هذا اللقاء لجهودهم المخلصة، كما أُحَيِّي نخبة العلماء من داخل قطر ومن ضيوفها المشاركين في هذه الورشة.
 
 
السادة الحضور: 

إن عنوانَ هذه الورشة مُؤَسَّسٌ على مقطعين مَفْهُومِيَيْنِ اثنين يندرج تحتهما موضوعان مُتَعَالِقَان، يتعلق الأمر هنا بحوكمة الهويةِ، وحوكمة التنوع، مع البحثِ عنْ أُسُسٍ لِكل واحدة منهما وحَصْرِ مبادئ وحلولٍ عَمَلِيَّةٍ لهما.
 
وإذا كان الحديثُ عن الهُوية في الماضي يحتاج إلى حَصْرِ ركائزها الأساسية والحاسمة مِنْ دينٍ ولغةٍ ووطنٍ وتاريخٍ مُشتركٍ.. . إلخ، وتُعَرَّفُ إنَّهَا وِعَاءُ الضَّمِيرِ الجَمْعِيِّ لأَيِّ تَكَتُّلٍ بَشَريٍّ بِمَا يتَضَمَّنُهُ مِنْ قِيَمٍ ومُقَوّماتٍ تُكَيِّفُ وَعْيَ الجماعةِ وإرادَتَهَا في الوُجودِ والحياةِ من أجل الحِفَاظِ على الكيانِ بِكُلِّ مَا يُبَرِّرُ ظُهُورَهُ واسْتِمْرَارَهُ، وقد صار يُنْظَرُ إليها في الوقت الرَّاهِنِ على أنها وحدةً تَعْتَمِلُ في رَحِمِهَا حُدودٌ هويةٌ جزئيةٌ، فتتعايشُ الهويةُ العامَّةُ داخِلِيًّا مَعَ المكونات المـ ستضافةِ في نفس الفضاءِ الجُغرافي وتَدْخُل في شبكةٍ من تحالفات الهُوية لها خصائصِ مــ تَقَارِبَةِ.
 
كما أن الوعيَ بهذه الهويةِ لم يَعُدْ ذاتيًا مَقْصُورًا على الجماعة المــ دْرِكَةِ لحُدودِ المـ شْتَرَكِ فَحَسْب، بل صار يتحقق إضافةً إلى ذلكَ من خلال مِنْظَارٍ مُنْفَتِحٍ على العالميةِ بِفِعْلِ التَّطَوُّر التقني والفَوْرَةِ المعلوماتيةِ.
 
لقد صارتِ المجموعاتُ الهويةُ تؤكد ذاتَهَا مَحَلِّيًّا مستعينة بمفاهيمَ شُـ مُوليةٍ، وإذا كانت في الماضي تَتَكَتَّلُ حَوْلَ الذَّاتِ وتَتَمَحْوَرُ حَوْلَهَا، فهي الآن تَتَطَلَّعُ إلى التَّفَاعُلِ مع غيرها في إطارٍ كَوْنِيٍّ مِنْ دُونِ أن تَنْتَفِيَ أو تَتَلاَشَى حُدُودُهَا، فهي بمثابةِ جُزْءٍ مِنْ مِسَاحَةِ فُسيفساء كبيرة لا تَتَأَسَّسُ جَمَالِيَتُهَا إلاَّ حِينَ تُرَصُّ جَميعُ القِطَعِ واحدةً بجانب الأُخرى مِنْ دُون اعْتِبَارِ لِحَجمِ القِطَعِ؛ فقد يتشوه جَمَالُ اللَّوْحَةِ حين تُفقَدُ قطعةٌ دقيقةٌ تَمَامًا كما تختل حِينَ تَضِيعُ قِطعةٌ مِنَ الْقِطَعِ الكَبيرةِ.
 
في هذا الإطارِ صار للتنوع حُضُورٌ بالضرورةِ، وهو حُضُورٌ داخلَ الهُويةِ نفسِها إذْ تُصْبِحُ الهوية وَحْدَةً في داخِلِهَا تَنَوُّعٌ، فَتَتَأَسَّسُ على ركائز مُحَدَّدَة وتَحْتَضِنُ هُوياتٍ صُغْرى مُسْتَضَافَة، كما يُصْبِحُ انفتاحُها على مجموعاتٍ هُويةٍ أُخْرَى تَتَقَاسَمُ معها هذهِ القريةَ الكونية أمرًا حَتْمِيًّا في إطارِ التَّسْلِيمِ بضرورةِ التَّنَوُّعِ.
 
حوكمة الهوية: 

هكذا يُفْتَح أَمَامَ الهُوياتِ بابُ إِعَادَةِ البِنَاءِ، إذْ إن تَسْلِيمَهَا بِضَرُورَةِ التنوع يُحَتِّمُ عليها أن تُجَدِّدَ نظرتَها إلى ذَاتِهَا وِفْقَ المــ عْطَيَاتِ الجَديدَةِ، فَتُؤَسِّسُ ما يُكْسِبَهَا الاستمرارَ في الوُجُودِ، وَمَا يَصُونُ ركائِزَهَا المـ مَيِّزة لها، ومَا يَحْمِي مَا تَسْتَضِيفُه مِنْ هُويَاتٍ صُغْرَى وتَنْفَتِحُ عَلَيْهِ من أحلافٍ هُوِّيَّةٍ.

وبعبارةٍ أُخْرى، يُصبح من الضَّرورِيِّ على الجماعاتِ الهُوِّيَّةِ أن تُفَكِّرَ في تَدْبِيرٍ للتنوع والاختلافِ داخلَ بِنْيَتِهَا، وتَدْبِيرِ مَا قد يَطْرَأُ عليها من الخارجِ. ونقْصِدُ بالتَّدْبِيرِ هُنَا الحَوْكَمَةَ على أنها «نُظُمٌ وقَوانِين وقَرَارَات ومُخَطَّطَاتٌ تَصُونُ فِعْلَ الجَمَاعَةِ الهُوِّيَّةِ وتُمَكِّنُهَا مِنَ الْآلِيَاتِ النَّاجِعَةِ لإعادةِ بِنَاءِ الهُوية وِفْقَ الْمُسْتَجَدِّ مِنَ الأَفْكَارِ الحَيَّةِ بِمَا يَخْدِمُ مَصْلَحَةَ الجماعةِ وَيَرْفَعُ مِنْ دَرجةِ فِعْلِهَا في التاريخ وفي المحيط العالمي والإقليمي».
 
وعلى هذا، تَكونُ الحوكمةُ إضافةً إلى كونها نُظُمًا وقوانينَ ضابطةً تقترن مع مُصاحَبَةَ الأفكارِ من مَرْحَلَةِ التَّنْظِيرِ إلى مَرْحَلَةِ التَّفْعِيلِ والتَّقْيِيمِ، فإنها هَامِشًا للتَّحَاوُر وإِبْدَاءِ النَّظَرِ وتَرْمِيمِ التَّخْطِيطِ بِقَصْدِ تحقيق درجةٍ مِنَ الفِعْلِ عَالِيَةٍ ومَرْتَبَةً معتبرةً مِنَ الْكَمَالِ.
 
وفي الجانبين مَعًا تُشَكِّلُ الحوكمةُ عاملَ بِنَاءٍ. وإذا كانت نتيجةُ أَجْرأَتِهَا تَنْشُدُ الجودةَ و التَّشَارُكَ في التَّسْيِير وِفْقَ أساسٍ مِنَ التَّكَامُلِ، فإنَّ الآلياتِ العَمَلِيَّة لِتَحَقُّقِهَا تَخْتَلِفُ باختلافِ الجَمَاعَاتِ ومَنظُومَاتِهِمُ الثَّقَافِيَةِ وَرُؤْيَتِهِمْ لِلْعَالَمِ.

 كما أن الحديثَ عنها يَتِمُّ مِنْ زاويتينِ اثنتينِ: زاويةِ المـ حَلِّيَةِ (الحوكمةُ المحليةُ) وزاويةِ العَالَمِيَّةِ (الحوكمةُ العالميةُ) , ولِكُلِّ زاويةٍ مِنَ الزاويتَيْنِ المذكورتين مَنْطِقٌ وآليَاتٌ، وإذَا كَانَتْ في الأُولى تَتَعَلَّقُ بالتَّدْبِيرِ العُمُومِيِّ والتَّشَارُكِيِّ وتَتَعَلَّقُ بما تُخَطِّطُهُ الجماعَةُ الهُوِّيَّةُ في فَضَاءٍ وطنيٍّ مَحدودٍ أو في حِلْفٍ هُوِّيٍّ مُعَيَّنٍ مِنْ سِيَاسَاتٍ عُمُومِيَةٍ تتوافق مع حَاجِيَّاتِ الجَمَاعَةِ (الشعب، الأمة) الاقْتِصَادِيَةِ والاجتماعيةِ والثقافية.. . إلخ، فإنَّهَا في الزَّاوِيَةِ الثانيةِ تَتَعَلَّقُ بِصِيَانَةِ البَرامِجِ المـ صَاغَةِ أُمَمِيًّا بِشَكْلٍ تَشَارُكِيٍّ. فَفِكْرَةُ صيانةِ التَّنَوُّعِ الثقافيِّ والإثنيِّ على الرغم مِنْ كَوْنِهَا مُتَحَقِّقَةً عِند كَثيرٍ من الجماعاتِ الهُوِّيَّةِ حتى عندَ تلك المـ تَبَاعِدَة جُغْرافِيًّا، فِكْرَةٌ صِيغَتْ في إعلانٍ عالميٍّ رَعَتْهُ المنظمةُ العالميةُ للتربيةِ والعلومِ والثقافةِ اليونسكو، وتَمَّ التَّوَافُقُ على آلياتِ أَجْرَأَتِهَا مَحَلِّيًّا وإقليميًّا حتى أَفْضَى الأمْرُ إلى ما صَاغَتْهُ بعضُ الدولِ مِنْ تدابير لصِيَانَةِ هذه الفِكْرَةِ، وحتى صاغت بعضُ التكتُّلاثِ الثقافيةِ المحليةِ والإقليمية مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الإيسسكو إعلاناتها عن التنوع الثقافي والإثني، (الإعلان الإسلامي للتنوع الثقافي بالنسبة لدول منظمة العالم الإسلامي).
 
وعليه علينا أثناء بحثنا عن أُسُسٍ لحوكمةِ الهوية والتنوع، وبحثنا عن حلول لما قد يُلاحَظُ من أخطاءٍ في النَّظْرَةِ الحَوْكَمِيَّةِ المـ عْتَمَدَةِ وآلياتها الإجرائيةِ، تَحْدِيدُ الزاويةِ المـ نْطَلَقِ منها.
 
الإسلام والتنوع: 

علاوة على ما سبق ذِكْرُهُ، فإن الفِعْلَ الحَوْكَمِي مُلاَزِمٌ للتنوعِ، إِذْ أنَّ فِعْلَ التَّشَارُك في التَّسْيِيرِ والتَّوافُقِ على نُظُمٍ وقوانينَ وآلياتٍ لِلْمُرَاقَبَةِ أُمُورٌ لا تَتَيَسَّرُ إلاَّ بِرُؤًى مُتَعَدِّدَةً، وهي دليلٌ على رغبةٍ في الْعَيْشِ مُشْتَرَكَةٍ.
 
ولما كَانت الحوكمةُ تَقْتَرِنُ بِمآلـ هَا التَّوَافُقِيِّ فإنَّ التَّسْلِيمَ بضرورة التَّنَوُّعِ يَحْمِلُ على التَّوَافُقِ كذلكَ، إذْ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وقائعَ مُخْتَلِفَة داخل الدَّائِرَةِ الإنسانيةِ إثنيًّا وثقافيًّا. . لِكُلِّ واحدةِ منها آلياتُها الخاصةُ في التفكير وطُرُقُهَا في التَّدبيرِ، لكنها تشترك في الإنسانيةِ بمَا يَمْنَحُ فُرَصًا للتَّعَايُشِ وإمكاناتٍ لتَجَنِيبِ النَّوْعِ البَشَرِيِّ الأخطارَ.
 
وفي هذا الأُفُقِ فإن القَوْلَ بإمكانِ التنوعِ، يُؤَسِّسُ بالتَّلاَزُمِ أفْكَارًا حَيَّةً في إطارِ التَّشَارُكِ مثل حِمَايَةِ التنوعِ، وحمايةِ حقوقِ الأقلياتِ الثقافيةِ والإثنيةِ والدينيةِ، واعتبارِ التنوعِ مَلْمَحًا مِنْ ملامحِ التُّرَاثِ البشريِّ. مِنَ المنظورِ الإسْلاَمِيِّ، يحملُ التنوع معنًى إيجابِيًّا، ونجده في أفقينِ اثنينِ:
 
الأفُقُ الأَوَّلُ، التنوعُ الطَّبيعِيُّ، المعبر عنه في سورة الروم:

« وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ» (سورة الروم، الآيات 20ــ ـ ـ 22)
 
 فعلاوة على وحدةِ الأصلِ البشريِّ تُشيرُ هذه الآيات الكريمة إلى أن التنوعَ الطبِيعِيَّ هو مُحَصَّلٌ من الكَثْرةِ والانْتِشَارِ، لكنَّ هذه الكثرةَ لا تَنْزعُ نحو الافتراق والتَّبَاعد، إنها دافع إلى التفكر والتدبر، وهي مَعْبَرٌ لمعرفة المشترك.
 
وقد تقرر هذا المعنى عند سلف الأمة. نقرأ في تفسير ابن كثير مثلا: "وقوله تعالى: «واختلاف ألسنتكم» يعني اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء فرنج وهؤلاء بربر، وهؤلاء تكرور، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم، وهؤلاء صقالبة، وهؤلاء خزر، وهؤلاء أرمن، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم، فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل، وجه كل منهم له أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر"
 
ونفس المعنى الإيجابي من التنوع يفهم من الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». (الحجرات:  13)
 
فالتنوع المؤسس على كثرة النوع هو عامل تأسيس للمجتمع المتعارف، إذ أن التعدد المعرفي والفكري والعلمي والإثني، يقود بالضرورة إلى التفكير في حدود للتوافق لتحقيق التعارف ومآلاته المـ جْمَلَةِ في "التعايش" وقبول "التشارك".
 
أما الأفق الثاني، فهو التنوع المعنوي، وهو الذي يَنْشَأُ عن الاختلافِ بين الذَّوَاتِ المـ فَكِّرَةِ نتيجةً لاختلافِ أساليبِهَا في الاستدلالِ واختلافِ آلياتِ التَّفْكيرِ عندَها وحسب رُؤْيَتِهَا للْعَالـ مِ. قال الله تعالى في سورة يونس الآية 19: «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»
 
وقال تعالى في سورة هود الآيتين 118ـ 119: «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.. »
 
والاختلاف المذكور في هذه الآيات الكريمة إشارةٌ إلى تنوع معنوي تَتَحَمَّلُ فيه الذَّوَاتُ العاقِلَةُ تَبِعَاتِ اختياراتِهَا فَتَتَوَجَّهُ فِئَاتٌ مِنْهَا إلى التَّآلُفِ وتَتَوَافَقُ على ما يَحْفَظُ الدِّينَ والعقل والنفس والمال للكَائِنِ البَشَري، وتَخْتَارُ فئاتٌ أُخْرى طَرَائِقَ أُخرى في النَّظر تَجْعَلُهَا مُنَاقِضَةً للأُولَى فَتَتَعَصَّبُ وتَتَطَرَّفُ، وتَسْطُو وَتُدَمِّرُ، وتُضَيِّعُ مُهِمَّةَ الاسْتِخْلاَفِ فَتُهْلِكُ النَّوْعَ البَشَرِيَّ وتُلْحِقُ الضَّرَرَ بكوكب الأرض..
 
وفي الإسلام، يُمْكِنُ رفعُ الاختلافِ الدَّالِّ على التَّنَوُّعِ المعنَوِيِّ والمـ عَبَّرِ عنه في الآيات التي أوردنا أعلاه، بِتَطْوِيرِ خُطَطٍ لِتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الخيرِ وما يَرْتَبِطُ بها مِنْ مَحَاسِنَ ومَآلاِتٍ، وتَضْيِيقِ دَائرةِ "المـ نْكَرِ" وما يَرْتَبِطُ بها مِنْ شُرُورٍ ومَسَاوِئ وهَلاَكٍ للنَّوْعِ وضَيَاعٍ للْمُقَدَّرَاتِ التي حَبَاهُ اللهُ بِهَا لتكونَ دافِعَ عَطَاءٍ وخيرٍ ونماءٍ عِوَضَ أَنْ تكونَ عَامِلَ دَمَارٍ وَشَرٍّ. يقول الله تعالى في سورة آل عمران الآية 104: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

كما يُمْكِنُ رَفْعُ ذلك الاختلافِ في الدَّائِرَةِ المـ تَوَافِقَةِ بِمَآلِ التَّآلُفِ والاعتصامِ بِحَبْلِ اللهِ، وسَبِيلُ هَذِهِ الْـ مَآلاتِ سَبِيلٌ يَنْضَبِطُ لِقَوَاعِد وشروطٍ وَوَاجِبَاتٍ.
 
وقد أشرتُ أعلاهُ إلىَ أَنَّ في القَوْلِ بِضَرُورَةِ التَّنَوُّعِ إقرارٌ بإمْكَانِ التَّشَارُكِ والتَّوَافُقِ عَلَى حُدُودٍ تَضْمَنُ للإِنْسَانِ فُرْصَةَ المـ حَافَظَةِ عَلَى النَّوْعِ وَصَوْنِ الكَوْكَبِ الذِي هُو مِنْهُ وَآيِلٌ إِلَيْهِ، وَتَجْنِيبٌ لِلْبَشَرِيَّةِ شُرُورَ التَّقَاتُلِ واغْتِصَابَ البعْضِ لحقوقِ البَعْض، وتَسَلُّطَ البَعض على البعض.
 
إِنَّ احترامَ الحَقِّ في الاختلافِ الفِكْرِيِّ والثَّقَافِيِّ حَقٌّ لا يُمكِنُ أن يَتِمَّ خارجَ رَحِمِ العُقُولِ المـ قِرَّةِ بِضَرُورَةِ التَّنَوُّعِ، وعَلَى ذَلِكَ الحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ تَتَأَسَّسَ قَوَاعِدُ الحِوَارِ بَيْنَ الجَمَاعَاتِ الهُوَّيَّةِ المـ خْتَلِفَةِ، وبينَ الجماعاتِ الهُوِّيَّةِ المـ تَقَارِبَةِ الْقَابِلَةِ لِمَبْدَأ التَّحَالُفِ والتَّعَارُفِ، كما ينبغي أن يُوَجَّهَ الحِوار بينَ العناصِرِ المـ كَوِّنَةِ لِلْمَجْمُوعَةِ الهُوِّيَّةِ الوَاحِدَةِ.
 
 حوكمة التنوع: 

وفي التاريخ الإسلامي نماذج راقية لحوكمة التنوع وتدبيره وحمايته:
 
الأنموذج الأول:

في وثيقة دستور المدينة التي أصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 622م نقف على أسس صياغة المجتمع المتنوع، لقد آلف دستور المدينة بين فصيلي المهاجرين والأنصار كل فصيل بحسب مكوناته الإثنية، وكل مكون (طائفة) يتعاقل "معاقله الأولى بالمعروف ويُفْدِي عَانِيَهُ بالمعروفِ والقِسْطِ بين المؤمنين".
 
حث دستور المدينة كل المكونات على إقرار نظامٍ للتَّكَافُلِ الدَّاخِلِيِّ الخاص بها، كُلُّ مُكَوِّنٍ وَجَبَ عليه "أَنْ لا يَتْرُكَ مُفْرَحًا كثير الدَّيْنِ بين عناصره إلا ويُعْطى بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ". كما حث نفسُ الدستورِ الطَّوَائِفَ المـ كَوِّنَة للأمة دَفْعَ الظُّلْمِ ومُحَارَبَةَ طُغْيَانِ البعض على البعض، ومُحاربةَ الفَسَادِ، والتَّسَاوي أمام العدالة. وَضَمَنَ حُرِّيَةَ المـ خَالِفِينَ في الدين في مجتمع الأمة، وكفل لهذه الفئات حق التدين.

ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى ما تلا الوثيقة من مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي إجراء لاحم للجماعة الهوية المسلمة، أعاد تأسيس هوية الجماعة على التآلف المعتقدي وكفل التعامل مع المخالف المتعايش معه في إطار التنوع.
 
ولا يفوتنا الإشارة كذلك إلى أن التشارك الذي يتأسس وفق شريعة الإسلام في المجتمع المسلم المتنوع يؤول إلى تحقيق المبرة والإقساط بين جميع فئاته، وهي ما تشير إليه الآيات 7ــ 9 من سورة الممتحنة «عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
 
الأنموذج الثاني:

في خطبة حجة الوداع ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم على رُكْنٍ أَسَاسٍ في تَآلُفِ الجماعةِ الهُوِّيَّةِ المـ تَجَانِسَةِ (مُجتمع المؤمنين) وفي تَآلُفِ المجتمعِ العَامِّ (المجتمع الإنساني)، يتعلق الأمر هنا بضَبْطِ الحُقُوقِ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبةِ الجامِعةِ الخالِدةِ، وَالَّتي بَيَّنَ فيها أصولَ الدِّينِ وفُرُوعَه ومبادِئَه وآدابَه؛ حيث قال:  أيها الناس: إنَّ دِماءَكُم وأموالَكم عليكُم حرامٌ إلى أن تَلقَوا ربَّكم كحُرمَةِ يَومِكُم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا. إلى أن قال:  إنّ ربّكم واحدٌ، وإِنّ أَبَاكُم وَاحدٌ، كُلُّكُم لِآدَمَ وَآدَمُ مِن تُرابٍ، أَكْرَمُكم عِندَ اللهِ أتقَاكُم، ليس لِعَرَبِيٍّ فَضْلٌ عَلى عَجَمِيٍّ إِلا بِالتَّقوى. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أَلا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنكُمُ الْغَائِبَ.
 
ولعل في عبارة "أَيُّهَا الناس" ما يشير إلى أنَّ القواعدَ المـ عْلَنَةَ في خطبة الوداع، قواعد عَامَّةٌ تَخُصُّ مجتمع أهل الإيمان كما تَخُصُّ العالمين. فَحَفِظَ حقوقَ النَّاسِ في النفس والمال والكرامة الإنسانيةِ والْآدَمِية، ورَكَّزَ على ضرورةِ سِيَادة العدلِ ورد المظالمِ، وَكَفَلَ حَقَّ الجِنْسَيْنِ (الذكر والأنثى). كَمَا نَصَّتْ خطبة الوادعِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكتابِ الله وسُنَّةِ رسوله.
 
الأنموذج الثالث:

نقرأ في العُهْدَةِ العمرية مع أهل إيلياء "بيت المقدس" حين فتحها المسلمون عام 638م ما يلي:
 
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تُسكَن كنائسهم، ولا تُهدَم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحد منهم.. . . "
 
وقد أوضحت هذه العهدة العمرية بجلاء تام احترام الإسلام للتنوع وحمايته، وحرية التدين، وممارسة الطقوس، والأمنَ على الأرواح والرموز والأيقونات الدينية، وعدم المزاحمة من أهل دين لآخر، وإقرار الأمن وسيادة العدل، واحترام الحقوق، دونما تفرقة بين عرق وجنس، أو دين وآخر، أو تميز ثقافة، أو علو طبقة اجتماعية.
 
صيانة التنوع: 

على قياس هذه النماذج التي ذكرنا، تعددت نماذجُ صِيَانَةِ التنوع في تاريخ المسلمين، ومع اتساع رُقْعَةِ دولةِ الإسلامِ بِفِعْلِ الفُتوحاتِ، وتَنَوُّعِ البِلاد المفتوحةِ، تَعَدَّدَتْ صُوَرُ ذلك التنوع وتعددت إِمْكَانِيَاتُهُ، وبفضلِ لاَحِمَةِ الإسلامِ انْصَهَرَتْ في مُجتمع المسلمينَ عناصرٌ هُوِّيَّةٌ مُختلفَةٌ مِمَّا فَسَحَ المجالَ لِلتَّطْوِيرِ والإِبْدَاعِ في العُلُومِ والفُنونِ وسَائِرِ مجالاتِ الحياةِ، ولم يَختلفِ الأَمْرُ في بغدادَ، عنه في القاهرة، أو القيروان، أو تلمسان أو فاس أو في قرطبة وغرناطة وإشبيلية وصقلية أو طشقند.. .
 
لقد صارت دولةُ الإِسلامِ حاضنةً للأَعْرَاقِ والأَدْيَانِ. وإذا كانَ لاَبُدَّ من تقديم نموذج عن ذلك على سبيل المثال، فإننا سنختار أنموذج الأندلس، فَخِلاَلَ ثمانيةَ قُرون من الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية امتزجَتْ في ظل الإسلامِ ثقافاتٌ وأَعْرَاقٌ، وتَأَسَّسَتْ هُويةٌ أندلسيةٌ مِنْ أَمْشَاج العرب والبربر واليهود والقوط وغيرهم. لَقَدْ بَنَى كُلُّ مُكَوِّنٍ مِنْ مُكَوِّنَاتِ المجتمع الأندلسيِّ نَمَطًا ثَقَافِيًّا وِفْقًا لِهُوِيَّتِهِ الدَّقِيقَةِ وخصوصيته، لكنَّهُ ارْتَبَطَ مِنْ خِلاَلِ رَغْبَةٍ في العَيْشِ مُشْتَرَكَةٍ في لاَحِمَةِ "الأَنْدَلُسِيَّةِ" التي تَشَكَّلَتْ في هوية أندلسيةٍ مُرتبطَةٍ بِهُوِيَّةٍ جَامِعَةٍ جَعَلَتْ الأَندلسيين جُزْءًا لاَ يَتَجَزَّأُ مِنَ الهوية الإسلامية العامة.
 
في الأندلس كان ابن رشد، وابن حزم، والقرطبي، وأبو حيان الغرناطي، وابن زيدون، والمعتمد بن عباد.. . وفيها كان ابنُ ميمون، وأبو الحسن يهوذا اللاوي، وموسى بن عزرا، وفيها كان ابن الألفارو، وابن القوطية والرُّمَيْكِيَّةِ.. . فيها أَنْتَجَ المسيحيونَ المستعربون جَانِبًا وَاسِعًا من تُراثِ المسيحيةِ باللُّغَة العربية، وفيها استطاعَ اليهودُ أن يُحْيُوا لُغَتَهُمْ العبرانية الدَّارِسَةَ فَبَنَوْهَا بِالمـ وَازَنَةِ مع نَحْوِ اللُّغَةِ العربيةِ، وَكَتَبُوا طِيلَةَ خمسةِ قُرُونٍ كاملةٍ علومَ التَّوْرَاةِ بِعَرَبِيَّةٍ مَكتُوبَةٍ بخطٍّ عِبْرَانِيٍّ، بَلْ جَاوَزَ الأَمْرُ ذلكَ الحَدِّ إِلَى تَطْوِيعِ العروضِ الخليليِّ فَنَسَجُوا شِعْراً رَصِيناً عَبَّرَ عَنْ وِجْدَانِهِمُ الأَنْدَلُسِيِّ.
 
كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الأندلسيينَ فَعَلَ دَاخِلَ نَوْعٍ ثَقَافِيٍّ خَاصٍّ بِهِ مُؤَسَّسٍ عَلَى العِرْقِ والدِّينِ واللُّغَةِ، لَكِنَّهُمْ جميعا اِنْتَظَمُوا في عِقْدِ"الأَنْدَلُسِيَّةِ" المـ ؤَسَّسَةِ مِنَ المــ شْتَرَكِ بين التَّنَوُّعَاتِ الثَّقَافِيَةِ والعِرْقِيَةِ والدينيةِ في فضاءِ شِبْهِ الجزيرةِ الإيبيريةِ.
 
واليوم، تُقَدَّمُ الأَندلسُ عَلَى أَنَّهَا أُنْمُوذَجٌ مِثَالِيٌّ لِفِكْرَةِ التنوع الثقافي وما ينبغي أن يَنْتُجَ عنها مِنْ إيمانٍ في العيش المشترك، ومن سلامٍ وتسامحِ وتعايشِ.
 
ولعلنا استطعنا في هذه العُجالة أن نَقِفَ على نماذج لحوكمةِ التنوع من المنظور الإسلامي، وهو المنظور الذي يمكن تلمسه كذلك في قوانين مثل تلك المتعلقة بأهل الذمة مثلا، وفي نماذج تدبير الاختلاف عند الفقهاء المسلمين. والمـ حَصَّلُ، أن التنوع مُعْتَبَرٌ في التجربةِ الإسلامية وكان عاملَ بِنَاءٍ وتَطْوِيرٍ.
 
بَقِيَ لنا في هذه الكلمة نُقْطَةٌ تتعلق بالهوية، فقد أشرنا في البداية إلى أن الناظر اليوم إلى الهوية لم يعد يُرَكِّزُ على المؤتلفِ من عناصرها فقط، بل أصبحَ يَنْظُرُ إن كانت تَحْمِلُ في ثَنَايَاهَا حُدُودًا هُوِيَّةً صُغرى، أَيْ صَارَ يُنْظَرُ إِليْهَا مِنْ خِلاَلِ المـ تَنَوِّعِ مِنْ عَنَاصِرِهَا، على اعتبارِ أَنَّ تِلْكَ العناصرَ هي بِنْيَاتٌ هُوِّيَّةٌ تَشْتَرِكُ في حدودٍ وتَنْفَرِدُ بِحُدُودٍ، وبِتَفَاعُلِ جميعِ البنياتِ دَاخِلَ الهُوِّيَةِ تَتِمُّ عَمَلِيَّاتُ مُراجعتِهَا وإعادةِ بِنَائِهَا وِفْقَ شُروطٍ مُستجَدَّةٍ.
 
وقد كُنَّا كَتَبْنَا حول هذا الموضوع أيضا بحثا بعنوان: الوعي بالهوية وإعادة بنائها من منظور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أَسَّسْنَاهُ على وَرَقَةٍ سَابِقَةٍ وَسَمْنَاهَا بـ "كلمات حول الهوية"، أَكَّدْنَا خِلاَلهَا على أنَّ الحديثَ عن الهُوية القَطرية ينطلقُ بالأساس من التَّأْكِيدِ على ركائزها، وَحَصَرْنَا تِلْكَ الرَّكَائِزَ في "اللغة والدين والوطن"، وَأَشَرْنَا إلى أَنَّ الدين الإسلامي بمقاصدهِ الشريفة يُؤَمِّنُ لَنَا اللِّقَاءَ مَعَ دَوَائِرَ عَريضَة مِنْ سُكَّانِ المعمورِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ في دِينِنَا ثوابتٌ لا مَجَالَ إلى تَجَاوُزِهَا ومُتَغَيِّرَاتٌ يُمكنُ تَطْوِيعُهَا بِحَسَبِ الزَّمَانِ والنَّوَازِلِ حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ أَنْ نَعِيَ ثَقَافَةَ عَصْرِنَا ونستَوْعِبَ كُلَّ الأَشْكَالِ الحَيَّةِ مِنَ التَّقَدُّمِ والحضارةِ دون تَفْرِيطٍ في الأُصُولِ.
 
كما أكدنا على ضرورةِ مُراعاةِ مَقاصدِ الشَّريعَةِ الغَرَّاءِ والوَعْي بِفِقْهِ المـ صَالِحِ والمـ فَاسِدِ، وسُلُوكِ طريقِ الوسطيةِ والاعتدالِ في النَّظَرِ إِلى الأُمورِ الدِّينية وغيرها. وكُلُّ ذلك مع اعتبارِ أهميةِ اللُّغَةِ العَربيةِ في حِفْظِ الهُوية وَأَنَّهَا مُلازِمَةٌ لها إذ بها نزل القرآن الكريم. ونَبَّهْنَا إلى أَنَّ الهوية تُوَاجِهُ تحدياتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ سِيَمَا وأنَّنَا نعيشُ في عالمٍ مفتوحٍ تطورَتْ فيهِ وسائلُ الاتِّصَالِ وتَعَدَّدَتْ فيه أشكالُ التَّوَاصُلِ. وفي خِضَمِّ كُلِّ ذلك قَدَّمْنَا بعضًا مِمَّا تُصَانُ به هذه الهوية مَحَطَّ السُّؤَالِ.
 
حماية الهوية: 

اليوم، أُجيزُ لِنَفْسٍي أن أَلْتَمِسَ من هذه الورشةِ عِبَارَةَ "حوكمة الهوية" وهي تعني في الأَسَاسِ تعني نفس ما حَدَّدْتُهُ في إمْكَانِ إعادة بناء الهوية، ذلك أَنَّ هذه الأخيرة لا تَتَيَسَّرُ إلاَّ عند تَحَقُّقِ شُرُوطٍ مَنْهجِيَّةٍ وخُطَّةٍ لإعادةِ البِنَاءِ، وخُطَّةٍ لتفعيلِ تِلْكَ الخُطَّةِ، وآلياتٍ للتَّقْيِيمِ بِقَصْدِ التَّقويمِ أو التَّطْوير.
 
وهو نفسه ما يُلْتَمَسُ مِنْ حوكمة الهوية، إِذْ لَمَّا كُنَّا في السَّابِقِ نُرَكِّزُ عَلَى المؤتَلِفِ مِنْهَا فَنُحَاوِلُ صِيَانَتَهُ بِالتَّمْنِيِع والتَّحْصِينِ عَنْ طَريقِ التربيةِ والإعلامِ والوَعظِ، وَنُحَاوِلَ أَجْرَأَتَه في قوانينِ جَمَاعَتِنَا الهُوِّيَّة، كُنَّا نُفَعِّلُ ذلك بقصدِ التجديد عَبْرَ صَيْرُورَتَيْنِ، تَأَسَّسَتْ إِحْدَاهُمَا دَاخِلَ المجتمعِ وَأَفْضَتْ الرَّغْبَةُ في إحْدَاثِ تَطَوُّرٍ بِتَطْوِيرِ آلياتِ النَّظَرِ وتَوْسِيعِ مَوَاضِيعِ النَّظَرِ، وتَأَسَّسَت الثَّانِيَةُ بِفِعْلِ التَّفَاعُلِ مَعَ العَالم الخَارِجِيِّ فاسْتَلْزَمَت الحَسْمَ في قضايَا تتعلقُ بالانتماءِ، وفي حُدودِ حقوق الأفرادِ، وحقوق الجماعةِ، وأَنمَاطِ الحَوكَمَةِ والتَّسْيِير.
 
الهوية القطرية العربية الإسلامية: 

اليوم بحوكمة الهوية، يكون علينا أن نَنْظُرَ إليها بمِنْظَارٍ مُوَسَّعٍ، ويكون علينا أن نُطَوِّرَ نُظُمًا وقوانينَ وآلياتٍ لتَدْبِيرِ عناصرها المتنوعةِ التي يُمْكِنُ أن يُنْظَرَ إليها باعتبارها أجزاء أو بعبارة أخرى مكوناتٌ داخل هوية جامعة.
 
كما سيكون علينا أن نَحْصِرَ حُدُودَ الاخْتِرَاقِ الهُوِّيِّ لهُوِيَّتِنَا العامة ما دُمْنَا نَعيشُ في عالمٍ مفتوحٍ، تَتَجَوَّلُ فيهِ الأفكارُ وتتراكمُ بسرعةٍ مُتَنَاهِيَةٍ. وبِدُونِ حوكمةٍ لهويتنا يُمْكِنُ لأَمْنِنَا الديني والثقافي والإجتماعي أن يَخْتَلَّ. لكنْ عَلَيْنَا في هذه العملية أَنْ نَعْتَبِرَ جُمْلَةً مِنَ الأُمُورِ:
 
1ـ علينا أن نَعِيَ أنَّ هويتَنَا مؤسسة على الدين الإسلامي، وأنَّ الإسلامَ يُعْتَبَرُ ركيزَةَ شخصيتنا لاَزَمَتْ أُمَّتَنَا منذ خَلَقَ اللهُ الإنسان على وجه المعمورة، باعتبار إيماننا بجميع الأنبياء والمرسلين، فَكُلُّهُم أتى بالإسلام (الدين) من عند رب العالمين، فنحن مخاطبون بقوله تعالى:  «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ». (سورة البقرة، الآية 136) ، ونحن مؤمنون بقوله عز وجل:  « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ» (سورة آل عمران، الآية 19).
 
ونحن في هذا البلد معتزون ومفتخرون بهذا الركن الركين من هويتنا، دون غرور ومفتخرون بتواضع لرب غفور.
 
2ـ علينا أن نَعِيَ كذلك أن لِلُغَتِنَا دَوْرٌ طَلِيعِيٌّ في صَوْنِ هذه الهوية، وهي أي اللغة، لاَحِمَةٌ لهويةٍ مُوَسَّعَةٍ تَنْقُلُ العُروبَةَ وَتَبُثُّهَا في إطارٍ كَوْنِيٍّ باعتبار عالميةِ الإسلامِ. ولابُدَّ في إطارِ حوكمةِ الهوية، أَنْ نَنْهَضَ بها، لاَبُدَّ أَنْ نُعِيدَ النَّظَرَ في سِيَاسَاتِ مَجَاميعِ اللُّغَةِ العربيةِ ومراكزِ التعريبِ لِتَلاَفِي قُصُورِ العربيةِ على مُواكَبَةِ مُسْتَجَدَّاتِ العَصْرِ وتَخَطِّي استقبالِ الأَفكارِ بالتَّرجمةِ إِلَى إنتاجِ المفاهيمِ وَالْتِمَاسِ وسائلِ تقريرِهَا عالميا.
 
ولما كُنَّا من أُمَّةِ "إقرأ" فقد وجب في إطار صَوْنِ اللغة التي هي من ركائزِ الهُوية التَّوَصُّل إلى ما به نَبْنِي مُجْتَمَعًا قَارِئًا مُوَاكِبًا لِلْجَدِيدِ والحَيِّ مِنَ الأفكارِ.

لاَبُدَّ لنا من سياسةٍ إعلاميةٍ مضبوطةٍ، تُثَقِّفُ الفَرْدَ وتُحَصِّنُ الجماعةَ، وتُطَوِّر من آلياتها لتُؤَثِّرَ في دَوَائِر هوية أخرى بقصد التَّعَارُفِ والتَّحَالُفِ من أَجْلِ نَشْرِ الخَيْرِ ومُحَاصَرَة الشَّرِّ في المجتمع الإنسانيِّ.
 
3ـ عَلَيْنَا ونحنُ نُفَكِّرُ في بناء أنظمةٍ للحوكمةٍ وقوانينَ للتدبيرِ التَّشَارُكِيِّ، أن نعتبرَ مقاصد الشريعة الإسلامية؛ وهي الغايات المستهدفة التي وضعتها الشريعة لأجل تحقيق مصلحة العباد آجلاً وعاجلاً، لحفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.

ولما كانت مصلحة الإنسان هي الهدف من الشريعة الإسلامية لتمكينه من حرياته وحقوقه المكفولة له شرعاً، فَقَدْ وَجَبَ الاهتمامُ بمقاصدِ الشريعةِ وتطويرُ آلياتِ النَّظَرِ فيها لتجاوز ما يُطْرحُ في واقع المسلمين من عقباتٍ، ومعالجة ما يَطْرَأُ من نوازلَ، واختبارُ ما يجدُّ مِنْ أَفْكَارٍ.
 
4ـ علينا أن نَعِيَ أَنَّ هُنَاكَ أَفْكَاراً حَيَّةً مُتَدَاوَلَةً عند بنياتٍ هُوية أخرى، ويتعين علينا تطويرُ أنظمةٍ لاسْتِعَارَتِهَا وتفعيلِهَا في بِنْيَتِنَا الهوية، وأنَّ هُنَاكَ أَفْكَارًا وطُرُقًا لِتَجَاوُزِ المعنى السَّيِّءِ للاختلافِ يُمْكِنُ الاستفادَةَ مِنْهَا.
 
5ـ علينا ونحنُ نَضَعُ أُسُسًا لحوكمةٍ رَشِيدَةٍ و تَشَارُكِيَةٍ أَنْ نَعْلَمَ أن للتَّخَصُّصِ مَكَانَتَهُ الحَاسِمَةَ فِي نَجَاحِ أَنْظِمَةِ التَّقْيِيمِ ونَجَاعَةِ مُخَطَّطَاتِ التَّطْوِير.
 
علينا أن نَعِيَ أنه يتعين علينا أن نكون كما السور المنيع يشد بعضُ لَبِنِهِ بعضا في تَكَامُلٍ بَدِيعٍ، فلا الطبيب في مُكْنَتِهِ أن يضطلع بدور الإعلامي، ولا الفقيهُ يمكنه أن يلبس زي العالم المجتهد، ولا الحقوقي بمكنته أن يتصدر لتدريس العلوم.. .

إن لِكُلٍّ دورَه الدقيق الذي يُمْكِنُهُ من خلاله المساهمةُ في التدبير والتشارك في مخططات الإصلاح والتدبير. وجماعةٌ هذا أسلوبُها لَعَمْرِي قادرةٌ على تحقيق إعادةِ بناء الهوية وجعلها عَامِلَ بِنَاءٍ وتَنميةٍ وتطويرٍ وصونٍ للعُقولِ والأنفُسِ والموارد.
 
6ـ وعلينا كذلك، أن نُقِرَّ بأن مجتمعاتنا انفتحت على العالم الأوسع، وأن بين ظهرانينا جالياتٍ وهويات مُستضافةٌ، تتحول مع الوقت إلى جزء مَكِينٍ من هويتنا خاصة حين تنطق لُغَتَنَا، وتتنفس عَبَقَ ثقافتنا وتبدأ في استخدام آلياتنا في التفكير.
 
7_ وعلينا أخيرا أن نحث مؤسسات المجتمع الرسمي منها والمدني على التكاتف في تفعيل وتعزيز حوكمة الهوية وفق المنظور المتفق عليه، والحفاظ على التنوع والتعايش معه.
 
 وفي الختام، أؤكد أن هويتنا هي هوية ترنو إلى التعارف والتآلُفِ، ونحن أصحاب رسالة عالمية، وعلينا أن نعمل على تطوير ذواتنا لنُحَقِّقَ الفِعْلَ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
المصدر: موقع إسلام ويب